عمر بن عبد العزيز
عائض القرني
ملخص الخطبة
1- لمحة سريعة عن نشأة عمر بن عبد العزيز 2- وفاة سليمان بن عبد الملك واستخلافه عمر 3- أول يوم في خلافة عمر 4- شروط عمر على جلسائه 5- رد عمر لمظالم بني أمية 6- ورع وعبادة عمر بن عبد العزيز 7- تفقد عمر أحوال رعيّته 8- موقف عمر مع الشعراء والمداح 9- حفظ الله لأنبيائه وأوليائه
الخطبة الأولى
أيها المؤمنون:
عنوان هذه الخطبة: "هكذا فلتكن العدالة".
أقدم اليوم رمزًا من رموز العدالة على مر تاريخ الإنسان، أقدمه لكم غضًّا طريًّا، وأنا أشعر بالحرج، لأنني مهما قلت، فسوف أقصر في سيرته وترجمته، إنه حياة لضمير الأجيال، إنه رمز لعدالة الإسلام.
كان واليًا تحبه الرعية كأجل ما تحب الرعية الولاة، لأنه لم يفعل ما يدعو إلى السخط والبغض، لأنه كان يتقي الله في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه جعل القرآن قائده، والتقوى رائده، لأنه كان يُعظِّم سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويحب الفقراء والمساكين.
كان يحب أن يسمع الرأي الآخَر والنصيحة، فسرى حبه في قلوب الأطفال، وفي قلوب العجائز، وفي قلوب الفقراء، وفي قلوب المساكين. ولكن لماذ اخترت هذا العنوان في هذا اليوم "هكذا فلتكن العدالة"؟.
سمعت قبل أسبوعين أخا القردة والخنازير – شامير – وهو يتهجم على العالم الإسلامي، ويصفه بأنه عالَم ظالم، ليس فيه حوار ولا حرية، فأردت أن أُظهِر لذلك المجرم، صورة براقة وضيئة، لإمام عادل نفخر به على مرِّ التاريخ.
من هو هذا العادل؟ أظن أني لا أضيف جديداً هذا اليوم إذا حدثتكم عنه، وهل يخفى القمر؟ إنه مجدد القرن الأول، إنه الرجل الذي لمّا مات، أمست مدن الإسلام في مناحة وفي مصيبة وعزاء.
والمسلمون مصابُهم متفرق في كل بيت رنةٌ وزفير
إنه الرجل الذي قال فيه الإمام أحمد: ليس أحد من التابعين قوله حجة إلا عمر بن عبد العزيز.
السلام عليك يا عمر بن عبد العزيز، وبيننا وبينك أكثر من ثلاثة عشر قرناً، السلام عليك اليوم وغدًا وفي المستقبل، وحتى نلقى الله بك، وأنت رمز من رموز العدالة.
أيها الناس:
أنا لن أسرد حياته الشخصية، ولن أقدم ترجمة عن تفصيلات وجزئيات ما مرّ به، لكنني أَصِلُ بكم إلى سُدَّة الحكم يوم أن تولى عمر، كان شابًّا مترفًا من بني مروان، يغيِّر في اليوم الواحد ثيابه أكثر من ثلاث مرات، كان إذا مر بسكة شمَّ الناسُ طيبَه، كان يسكن قصرًا في المدينة، وعند والده قصر في الشام، وقصر في مصر، وقصر في العراق، وقصر في اليمن، وأراد الله لأمة محمد عليه الصلاة والسلام خيرًا، فتولى الخلافة.
حضر وفاة الخليفة، فرأى كيف يصرع الموت الولاةَ، وكيف يعقِر الموت الملوك، وكيف يشدخ الموت رؤوس العظماء.
رأى سليمان بن عبد الملك وهو منطرح على سرير المُلك كالطفل ولقد جئتمونا فُرادى كما خلقناكم أول مرّة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء [الأنعام:94].
كان سليمان يعصره الموت عصرًا، وكان منطرحًا بين يدي ربه يقول: يا من لا يزول ملكه ارحم من زال ملكه، وكان يصرخ قائلاً:
أفلح من كان له كِبارُ إن بَنيَّ فتيةٌ صغار
يقول يا ليت أبنائي كباراً، يتولون الملك بعدي. فقد أفلح من كان أبنائه كبارًا. قال عمر بن عبد العزيز أمامه: لا والله قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربِّه فصلَّى [الأعلى:14-15]. ومات سليمان، وكتب الخلافة لرجل في كتاب سرِّيّ، لم يُعلَم بعد.
ولما وارى الناس جثمان سليمان، قام رجاء بن حَيْوة أحد علماء المسلمين، فأعلن على المنبر أن خليفة المسلمين، وأمير المؤمنين للعالَم الإسلامي، عمر بن عبد العزيز.
فلما تلقى عمر بن عبد العزيز خبر توليته، انصدع قلبه من البكاء، وهو في الصف الأول، فأقامه العلماء على المنبر وهو يرتجف، ويرتعد، وأوقفوه أمام الناس، فأتى ليتحدث فما استطاع أن يتكلم من البكاء، قال لهم: بيعتكم بأعناقكم، لا أريد خلافتكم، فبكى الناس وقالوا: لا نريد إلا أنت، فاندفع يتحدث، فذكر الموت، وذكر لقاء الله، وذكر مصارع الغابرين، حتى بكى من بالمسجد.
يقول رجاء بن حيوة: والله لقد كنت أنظر إلى جدران مسجد بني أمية ونحن نبكي، هل تبكي معنا !! ثم نزل، فقربوا له المَراكب والموكب كما كان يفعل بسلفه، قال: لا، إنما أنا رجل من المسلمين، غير أني أكثر المسلمين حِملاً وعبئاً ومسئولية أمام الله، قربوا لي بغلتي فحسب، فركب بغلته، وانطلق إلى البيت، فنزل من قصره، وتصدق بأثاثه ومتاعه على فقراء المسلمين.
نزل عمر بن عبد العزيز في غرفة في دمشق أمام الناس؛ ليكون قريبًا من المساكين والفقراء والأرامل، ثم استدعى زوجته فاطمة، بنت الخلفاء، أخت الخلفاء، زوجة الخليفة، فقال لها: يا فاطمة، إني قد وليت أمر أمة محمد عليه الصلاة والسلام – وتعلمون أن الخارطة التي كان يحكمها عمر، تمتد من السند شرقًا إلى الرباط غربًا، ومن تركستان شمالاً، إلى جنوب أفريقيا جنوبًا – قال: فإن كنت تريدين الله والدار الآخرة، فسلّمي حُليّك وذهبك إلى بيت المال، وإن كنت تريدين الدنيا، فتعالي أمتعك متاعاً حسنًا، واذهبي إلى بيت أبيك، قالت: لا والله، الحياة حياتُك، والموت موتُك، وسلّمت متاعها وحليّها وذهبها، فرفَعَه إلى ميزانية المسلمين.
ونام القيلولة في اليوم الأول، فأتاه ابنه الصالح عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز، فقال: يا أبتاه، تنام وقد وليت أمر أمة محمد، فيهم الفقير والجائع والمسكين والأرملة، كلهم يسألونك يوم القيامة، فبكى عمر واستيقظ. وتوفي ابنه هذا قبل أن يكمل العشرين.
عاش عمر – رضي الله عنه – عيشة الفقراء، كان يأتدم خبز الشعير في الزيت، وربما أفطر في الصباح بحفنة من الزبيب، ويقول لأطفاله: هذا خير من نار جهنم.
يذهب فيصلي بالمسلمين، فكان أول مرسوم اتخذه، عزل الوزراء الخونة الظلمة الغشمة، الذين كانوا في عهد سليمان، استدعاهم أمامه وقال لشريك بن عرضاء: اغرُب عني يا ظالم رأيتك تُجلس الناس في الشمس، وتجلد أبشارهم بالسياط، وتُجوّعهم وأنت في الخيام والإستبرق.
واستدعى الآخر وقال: اغرب عني والله لا تلي لي ولاية، رأيتك تقدم دماء المسلمين لسليمان بن عبد الملك. ثم عيّن وزراءه وأمراءه من علماء وصُلَحاء المسلمين.
وكتب إلى علماء العالم الإسلامي رسالة، إلى من؟ إلى الحسن البصري، ومُطرّف بن عبد الله بن الشّخِّير، وسالم بن عبد الله بن عمر؛ أن اكتبوا لي كتبًا انصحوني وعِظوني، قبل أن ألقى الله ظالماً، فكتبوا له رسائل، تتقطع منها القلوب، وتشيب لها الرؤوس.
كتب له الحسن: يا أمير المؤمنين صم يومك، لتفطر غدًا. وقال سالم: يا أمير المؤمنين، إنك آخر خليفة تولَّى، وسوف تموت كما مات من قبلك. وخوّفوه ووعدوه.
وجعل سُمَّاره سبعة من العلماء، يسمرون معه بعد صلاة العشاء، واشترط عليهم ثلاثة شروط:
الشرط الأول: ألا يُغتاب مسلم.
الشرط الثاني: ألا يُقدِّموا له شِكاية في مسلم، التقارير المخزية في أعراض المسلمين، وفي كلمات المسلمين، ومجالس المسلمين، أبى أن تُعرض عليه أو تُرفع إليه.
الشرط الثالث: ألا يمزح في مجلسه، إنما يذكرون الآخرة وما قرب منها، فكان يقوم معهم، وهم يبكون، كأنهم قاموا عن جنازة.
انتظرو الجزء الثانى من الخطبه
( منقوووووووووووووول)